المدينة الرياضية تكتشف جيلاً: قوة الحشد الكشفي في معادلة البقاء والاستمرارية

بقلم// مهدي ياغي
في صباح الأحد 12 تشرين الأول 2025، امتلأت مدرجات مدينة كميل شمعون الرياضية في بيروت ببحرٍ بشري متماسك: أكثر من سبعين ألف كشّاف وكشّافة من جمعية كشافة الإمام المهدي احتشدوا في ما وُصف بأنه “التجمّع الكشفي الأكبر في العالم” ، حدث حمل في طياته أكثر من رسالةٍ احتفالية؛ كان إعلانًا رمزيًا وسياسيًا واجتماعيًا عن قدرة مجتمع خرج من الحرب على أن يعيد تشكيل ذاكرته وهويته عبر أجيالٍ لا تزال تحمل بصمات التجربة.
هذا التجمع لم يكن مجرد مشهد بصريٍ ضخم؛ إنه لوحة معقدة من الإشارات والدلالات التي تستدعي قراءة مركبة، لأن ما جرى في المدينة الرياضية يشتغل كمختبر لإعادة بناء الثقة، وكمحفز لاعادة إنتاج البنية الاجتماعية والسياسية للمقاومة بعد اختبارٍ عسير.
أن تجتمع عشرات الآلاف من الفتيان والفتيات، الكثير منهم من الذين عاشوا تجربة النزوح والدمار خلال حرب الـ66 يومًا، فإن هذا ليس عرضًا بصريًا فحسب، بل تحويلٌ للطفولة إلى “خزان ذاكرة” ووعاء استمرارية. الزي الكشفي لم يعد مجرد لباس تربيوي؛ صار رمزًا يعبر عن استمرارية المشروع الاجتماعي والسياسي: الطفل اليوم هو الراوي غدًا، ورافدُ الحكاية الذي يربط بين شهداء الأمس وقِيَم المستقبل. حضور هذا الجيل في قلب العاصمة، وضمن مساحة وطنية ذات حمولة رمزية، يعلن أن الذاكرة الجماعية لم تُغلق أبوابها أمام الانكسار بل تُعيد إنتاج نفسها من الجيل الصاعد.
هذا التحويل الرمزي مهم لأنه يكسر أسطورة أن الحروب تقتلع الذاكرة؛ هنا الذاكرة تُحاك في الخيام والمدارس والحلقات الكشفية، وتُغذّى بأناشيد وصفحات تربوية تجعل من الخبرة الجماعية مادة للوعي بدلاً من أن تكون عبئًا يستحيل تجاوزه.
ما يميّز التجمع أنه ليس حدثًا لمرة واحدة بل تتويج لعمل مؤسسي امتد عقودًا؛ جمعية كشافة الإمام المهدي التي تأسست قبل أربعين سنة قامت بتحويل الممارسة الكشفية إلى نظام تربية اجتماعي يستثمر في مهارات القيادة، الخدمة المجتمعية، والالتزام. في عالم يصنع السياسات بلغة اللحظة، تظل المؤسسات التربوية مثل هذه هي المستودعات الحقيقية لاستدامة القيم.
المعسكرات والبرامج والأنشطة التي تُعدّ الأطفال منذ الصغر تُنتج “قدرة ناعمة” لا تقل أهمية عن أي قدرة مادية أو لوجستية؛ إنها تخلق قادة محليين ومدربين وشبكات امتدادٍ مجتمعية قادرة على العمل في الأزمات وإدارة الملفات البشرية بعد الصراعات.
في خطاب قيادي أو حتى في سطر واحد من النشيد، لا يقف معنى الجهوزية عند حدود السلاح. التجمع الكشفي يثبت أن الجهوزية في مشروع المقاومة تتأسس أيضًا في الجانبين النفسي والثقافي: أن تتحمّل جماعة وتجري تدريبات التنسيق والعمل الجماعي وتؤسس لخطابٍ موحد ومتزن بعد الصدمة، هي جاهزية تتراكم عبر سنوات. إنّ التجمع، من هذا المنظور، هو إعادة تثبيت لبنة في بنية جاهزية أوسع تشمل الخدمات الصحية والتعليمية والتأهيلية.
الجاهزية هنا تستدعي أيضًا مفهوم “الاحتياط الاجتماعي”: آلاف الشبان والشابات الذين تم تدريبهم على نظم العمل الجماعي يصبحون قوة ناعمة تحت الطلب، يستطيع المجتمع استدعاءها لنهوض سريع بعد أي هزة أو لتفريغ مهام إنسانية وتنظيمية دون انتظار مؤسسات خارجية.
سياسيًا، أن تُظهر قيادة بالبلاد قدرةً على حشد هذا العدد الكبير في العاصمة هي عملية إعادة شرعنة ضمنية؛ شرعنة شعبية تُعبَّر بصيغة حشدٍ شبابيٍ منظّم يبدأ من الحقل المدني ويتقاطع مع الباعث السياسي. هذا الحشد هو بمثابة تصويت رمزي على استمرار المشروع، رسالة موجهة داخليًا لطمأنة القواعد، وخارجياً للتأكيد أن القاعدة الشعبية ما تزال حاضنة. كما أن زمن انعقاد الحدث وارتباطه بذكريات وملفات مؤسسية يجعله أكثر من قبيل الاحتفال؛ إنه تذكير إعلامي واستراتيجي بأنّ الحياة الجماعية التي تقوم عليها المقاومة لم تُنهَ.
هنا أيضًا تتقاطع عناصر الشرعية الشعبية مع مشروع استراتيجي طويل الأمد: الاستثمار في الشباب هو تهئية لقيادات مستقبلية، وهو بمثابة إقرار داخلي بأن التداول على القيم والسياسات سيتم عبر أجيالٍ متتابعة ومنظمة.
اختيار المدينة الرياضية كمكان للتجمع، تصميم تشكيلات مرئية، أداء أناشيد موحّدة وخطابات منسقة، كل ذلك يُسخَّر لصناعة صورة إعلامية قابلة للانتشار بسهولة. في المشهد الإعلامي اليوم، الصورة تسبق الكلام، والسرد البصري يمتلك قدرة على إعادة تعريف المشهد الدولي أكثر من أي بيان رسمي. التجمع هنا لم يكن فقط مناسبة محلية بل مادة إعلامية رصينة تُروَّج على مستوى الإقليم وتستدرج قراءاتٍ دولية جديدة عن قدرة المجتمع على التعافي.
باختصار، الحدث هو تدريب إعلامي كذلك: كيف تُحرف العين عن مشاهد الدمار إلى مشاهد التنظيم، وكيف يتحول جمهور محلي إلى رسالة تُرسل إلى الخارج مفادها أن “المقاومة تعيد إنتاج نفسها”.
وجود آلاف الأسر المتضررة بين الحضور يجعل من التجمع أيضًا منصةٍ ممكنة لإطلاق أو تعزيز مبادرات إعادة التأهيل — تعليمية، صحية، نفسية، وبنية تحتية محلية. الفارق بين التجمع الاحتفالي والتجمع المنتج يكمن في قدرة القائمين على ترجمة الزخم الرمزي إلى مشاريع تخدم الناس في يومياتهم. إن تحويل الحماس الجماعي إلى خطط تنفيذية يكلل النجاح الرمزي بإنجاز ملموس يكون معولًا حقيقيًا في إعادة هيكلة حياة النازحين والمتضررين.
وهذا هو الاختبار الحقيقي: هل سيظل الحشد صورة لحظة أم سيصبح نقطة انطلاق لمسارات إدارية وخدمية تستمر شهورًا وسنوات؟
في جوهرها، التجمع يعيد تأكيد فكرة أن المقاومة ليست مجرد فعلٍ مسلح إنما مشروع ثقافي يربّي مواطنًا يحمل حس المسؤولية، العمل المجتمعي، خدمة الجار، والالتزام بالقيم. هذه القيم حين تُنقل عبر أنشطة كشفية تصبح أقل عرضة للتقلبات اللحظية، وأقدر على الصمود في وجه محاولات التشويه أو التهميش. التربية هنا ليست تأهيلًا للقتال بل تأهيلًا للمجتمع كي يبقى متماسكًا ومؤهلاً لقيادة مشروعه الحضاري.
إقليميًا، لا تذهب أهمية التجمع في بيروت دون أن تُدرك كرسالة مزدوجة: لحلفاء المشروع، إشارة على أن العمق الشعبي والجهوزية الاجتماعية لا يزالان موجودين؛ وللخصوم، تذكيرٌ بأنّ تفكيك شبكة اجتماعية متجذّرة أعمق بكثير من استهداف بنية مادية. هذا ليس تهديدًا بقدر ما هو بيان قدرة على الاستمرار: فالحضور الواسع في العاصمة يُعدّ استعراضًا مشفّرًا لقدرة المشروع على إنتاج شبكة بديلة من الخدمات والقيادات حتى في أوقات الضغط.
إذا أردنا التحليل الواقعي برؤية بنّاءة، فعلى رغم كل دلالات القوة، هناك شروط تجعل من الحدث أصلاً لإنتاج قيمة دائمة: استدامة برامج تعليمية للشباب، إنشاء شبكات دعم نفسي واجتماعي للنازحين، وتأسيس آليات شفافة لتحويل الحضور الرمزي إلى مشاريع بنية تحتية محلية. الفرصة تكمن في تحويل المشاعر الجماعية إلى برامج تنظيمية ممنهجة. الفشل سيكون في ترك الحدث كصورة عابرة لا تغذي واقع الناس.