(اتفاق 17 أيار 1983): تجربة المقاومة أثبتت نجاحها
كتب// د. طلال حاطوم
لم يكن اتفاق 17 أيار المشؤوم وليد لحظته الراهنة، ولم يكن الخطر الصهيوني على لبنان لينتهي بـ (اتفاق) على انهاء (حالة الحرب)، فلبنان لم يبادر يوماً الا للدفاع عن نفسه في مواجهة الاعتداءات الصهيونية شبه اليومية منذ إعلان ولادة الكيان الصهيوني الغاصب، تحت إسم “دولة إسرائيل”، فقد كان لبنان عرضة لأشكال مختلفة ومتنوعة من الاعتداءات والاطماع الصهيونية، التي تركت آثاراً ضخمة عليه، كان من نتيجتها أن قام العدو الاسرائيلي باجتياح لبنان عدة مرات بهدف الضغط وفرض الشروط على الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي كانت تحاول ان تغطي اهمالها وعجزها بشعار قوة لبنان في ضعفه، ولو كان عدوه يمتلك اكبر ترسانة اسلحة في المنطقة موضوعة بيد زمرة حاقدة ومتعطشة للدماء هي آلة الحرب الاسرائيلية.
وحده إمام المقاومة والوطن الامام القائد المغيب السيد موسى الصدر كان ينبه الى خطر الغدة السرطانية والشر المطلق الذي يمثله الكيان الغاصب لارض القداسة فلسطين على مرأى ومسمع، بل وتواطؤ الكثيرين، كان الامام الصدر يعرف ان النموذج اللبناني ورسالة لبنان تشكل عائقاً مانعاً امام النموذج الصهيوني الذي يستهدف:
ـ تفتيت النموذج اللبناني القائم على تعايش الطوائف، ما يشكّل عائقاً أمام خطط الفرز العنصري الصهيوني.
ـ القضاء على المقاومة الفلسطينية المتمركزة في لبنان آنذاك للقضاء على مقومات وحلم العودة الى فلسطين واقامة الدولة الفلسطينية.
ـ إقامة (حكومة لبنانية) على غرار محاولة دويلة سعد حداد وانطوان لحد يُستخدم فيها المتعاملون اكياس رمل لحماية الجنود الصهاينة.
ـ توقيع اتفاق سلام مع لبنان.
في العام 1982 رأى المستوى السياسي الحاكم في الكيان الغاصب “إسرائيل” أن الفرصة سانحة برعاية أميركية إلى (التفاوص مع لبنان) لتحقيق مطامعها بعدما نفذّت اجتياحها الأكبر للبنان، وتمكنت من احتلال أول عاصمة عربية بعد القدس الشريف، بيروت،و بعد أن دمرت المدن والقرى وقتلت الألاف، وأخرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وارتكبت المجازر على جاري عادتها في بحر البقر ودير ياسين، في صبرا وشاتيلا ولاحقاً في قانا والمنصوري و… وبرز اتفاق 17 أيار 1983 في سياق ظرف تاريخي لبناني صعب.
بدأت الجولة الأولى من تلك المفاوضات في 28/12/1982م في فندق ليبانون بيتش في منطقة خلدة جنوبي بيروت، ثم تبعتها جولات عديدة تنقلّت بين ذلك الفندق ومستعمرة “كريات شمونة” شمالي فلسطين المحتلة بالتناوب.. حتى 17/ـ5ـ/1983 م حين أعلن التوصل إلى إتفاق عُرف باسم (إتفاق 17 أيار).
نص الاتفاق على “انهاء حالة الحرب” بين لبنان و”إسرائيل”، وعلى التعهد بانسحاب القوات “الإسرائيلية” من لبنان خلال 8-12 أسبوعاً من سريان الاتفاق، وإنشاء منطقة أمنية تنفّذ فيها ترتيبات أمنية “متفق” عليها، وتأليف لجنة اتصال مشتركة لبنانية ـ “إسرائيلية” ـ أميركية للإشراف على تنفيذ الاتفاق، وتنبثق منها لجنة الترتيبات الأمنية، ولجان فرعية، وإنشاء مكاتب اتصال في البلدين، والتفاوض لعقد اتفاقات تجارية، و”امتناع كل فريق” عن أي شكل من أشكال الدعاوى المعادية للفريق الآخر، والغاء المعاهدات والقوانين والأنظمة التي تعتبر متعارضة مع هذا الاتفاق.
لهذا عملوا وهكذا أرادوا!! لكن الشعب والمقاومة كان لهم رأي آخر… ففي أثناء المفاوضات كانت حركة المقاومة المسلّحة تتنامى، ورقعة عملياتها تتوسّع حتى كادت تطال إحدى جولات التفاوض، وكانت التحركات الشعبية تتصاعد، ولعل أبرزها التحرّك الذي انطلق من مسجد الإمام الرضا(ع)، في بئر العبد من ضاحية بيروت الجنوبية (يومها استشهد الشهيد محمد نجدي)، كل ذلك ضيّق الخناق، عملياً، على “اتفاق العار”، الذي وُلد ميتاً، ما حدا بالحكومة اللبنانية، ومجلس النواب اللبناني ــ آنذاك ــ إلى إلغاء ذلك الاتفاق، رسمياً، بعد أقل من عام على توقيعه، وبالتحديد في 5-3-1984 م، معتبرين أنه اتفاق “باطل”، ويُلغى كل ما يمكن أن يكون قد ترتب عليه من آثار. ونجح شعار: “اسقطناه يا عرب”.
لم يكن في الحسبان ان مجتمع المقاومة وثقافة المقاومة الذي تأسس على الافكار والرؤى المتقدمة التي طرحها الامام القائد المغيب السيد موسى الصدر كانت لها حسابات أخرى، ليس اولها ابقاء جذوة المقاومة مشتعلة تلهب قوات الاحتلال الصهيوني بعمليات سبقت الاجتياح، ولم يستطع منعها وصول القوات الغازية الى خلدة حيث كان ابطال حركة أمل في المرصاد ليذيقوا جنود العدو طعم الهزيمة والانكسار الذي كان غائباً عن قاموس الكثير من الدول العربية، ما عدا الشقيقة سوريا التي وقفت الى جانب لبنان ودعمته، تلك الانظمة التي *اعتبر الرئيس نبيه بري: “ان اتفاق ١٧ ايار لم يكن اتفاقا بين لبنان واسرائيل، كان اتفاقا بين العرب ولبنان، كان اتفاقا بين القرار العربي ولبنان، كان اتفاقا بين القرار العربي بعدم القتال ولبنان المنهزم،
وانتصرنا
وانتصرنا .. على الطوق المضروب على سوريا
وانتصرنا بإلغاء اتفاق ١٧ ايار”.*
لقد إنتصر بضعة ممن باعوا جماجمهم لله على أعتى قوة إستعمارية عرفتها المنطقة، هي إسرائيل. وتأكد أن تجربة المقاومة قد أثبتت نجاحها، وكانت إمكانية النصر على العدو الصهيوني التي شكك بها الكثيرون لضعف في اراداتهم، ولفقدان الثقة في قوة الشعوب المقهورة على تحقيق النصر بالسلاح الفردي وبالاسنان والاظافر كما دعى الامام الصدر.
هذه المقاومة البطلة اسست لتكييف الظروف لإلغاء إتفاق 17 ايار المشؤوم، وهزّت أركان الحكم الإسرائيلي وخلقت حالة من الإضطراب والقلق والخوف في المجتمع الإسرائيلي، وبدون غرور وبدون خوف لإجبار العدو على الإنسحاب الكامل وغير المشروط من جنوب لبنان وسائر المناطق اللبنانية، ولم تسمح لإسرائيل أن تستقر أو تجد عملاء لها الا قلّة باعت نفسها للشيطان.
وكان من عوامل انتصار لبنان إرادة المواطنية الصالحة والعيش المشترك، والطموح إلى إعادة بناء وطن على أساس العدالة والحرية والسيادة، وكانت الخطوة التاريخية التي تم إتخاذها في إلغاء إتفاق 17 أيار بعد أن تكاتفت جميع القوى حول الوطن، حول لبنان، ليحققوا إنتصاراً للبنان ولجميع أبنائه الذين اتحدوا وتضامنوا في وجه إسرائيل، بدلاً من الانسياق وراء أوهام جديدة تزيد من تمزّق الوطن بعناصر فتنة جديدة.
نحن اليوم مدعوون كما واجهنا في الماضي “اتفاق الذل” في السابع عشر من أيار، الى المواجهة وبكل قوة وبالصدر العاري والقبضات الحسينية المرفوعة أي محاولة لاتفاق جديد من هذا النوع، واضعين دائماً في الاعتبار ان الكيان الصهيوني سيبقى العدو الأول للبنان وللأمة ولكل الشعوب الحرة، ولن تجدي محاولات البعض إنتاج عدو آخر للشعب اللبناني يلهيه عن مهمته الأساسية في تحرير ما تبقى من أراضيه المحتلة ومساندة أشقائه العرب في استعادة حقوقهم المغتصبة وفي الطليعة في فلسطين المحتلة. وايضاً منتبهين أن الضمانة الاساس، كي لا نعود إلى اتفاق مشؤوم جديد، هي المقاومة التي يجب أن تبقى طالما أن الخطر الصهيوني ما زال مُحدِقاً بوطننا وبأمتنا.