الإعلام و”عصر التفاهة” و”ثقافة الانحطاط”

بقلم// د. طلال حاطوم

كنا في نهايات المرحلة الثانوية، وكان شغفنا ان نستمع الى (مثقفي) زمننا في بدايات العقد السابع من القرن الماضي: لن تنتهي حرب الاميركان في (فات نام) (المقصود فيتنام) الا بسقوط (سايكوون) (القصد سايغون). كانت هذه حوارات تحليلية عند من انهوا البكالوريا من رجالات الحي الذين يتحلقون عصراً حول كوب من الشاي، وكانت تدفعنا الى مزيد من المطالعة والبحث لنجاري (اصحاب الرأي) ولو بكلمة (واحدة) نسرقها من صحف ورقية لم تعد تصدر.

اليوم، كثر المحللون السياسيون الاستراتيجيون الجهابذة الذين ينظّرون في كل العناوين والموضوعات بجرأة العارف ان من يقرأ لهم او يستمع الى مناظراتهم المنفعلة والمفتعلة هو اقل معرفة منهم.
هي (ثقافة الانحطاط) في زمن القحط المعرفي، حيث تحولت الموضوعات المسماة (ثقافية)، وليس الثقافة بذاتها، الى اداة اساس في توطيد اركان (نظام التفاهة) ـ كما عبر الان دونو ـ رغماً عن التسميات المؤثرة والهالات اللامعة التي تحيط بكل ما هو ذو علاقة بالثقافة (من معرفة قواعد اللغة ـ اي لغة ـ الى الشذوذ والتنظير له، الى النقد ونقد النقد، الى التبحر في بناء تراكم معرفي يمكّن من صحة التحليل، الى مفاهيم الجمال…)، خصوصاً مع ظهور ازمة مفاهيمية تشوه الوعي وتقود الى غياب الفهم العميق للمطروحات وحتى المصطلحات والاساسيات العلمية، كما في الهندسة مثلاً حيث الكل اكبر من كل اجزائه، او في الفلسفة حيث لا معلول بدون علّة.
هذا التراجع المعرفي والفهمي جعل من (الصحافة) تعمل بطبيعة اختزالية، بل قُلّ بنظرية (الصبّاب) (valve) فتبخّر وتختزل وتكثّف وتبسّط وتسطّح، وتسمح بمرور ما يتناسب ورأي اصحابها للتأثير على جمهور يصر على انه (قرأ ذلك في جريدة)، وكأنها كتاب مقدس لا لُبس في اخبارها ولا امكانية ـ ولو ضئيلة ـ لأن تكون كاذبة او مضلِّلة او مغرضة، ناسياً او غافلاً ـ الجمهور ـ ان الصحافة في النهاية اصبحت صناعة يحركها هاجسَا الربح والتسويق، مما يدفعها اكثر الى الاهتمام بموضوعات الفضائح والترفيه واخبار المشاهير بدلاً من ان تكون (صحافة القضايا) كما عبر يوماً الاملم السيد موسى الصدر.
والامر ليس مقصوراً على الموضوعات، بل يتعداه الى (صحافيي الزمن الرديء) الذين ينقضون مفهوم: كوني جميلة واصمتي (بالاذن من برنارد شو)، الى شعار: كوني جميلة (ولو بالبوتوكس والمساحيق) بلهاء وقدمي برنامج منوعات ومسابقات شعرية وادبية، ولو كان سيبويه سينتفض في قبره. او: كن رياضياً اصيب في الرباط الصليبي وتحوّل الى مطرب هابط او صاحب برنامح حواري، طالما انت والضيف تعرفون من العلم قليلاً، والجمهور يهتم بالطلة البهية.
لقد وصلنا الى عصر (الاميون الجدد) المتعلمون مبادىء فك الحرف والقراءة بالتهجئة الذين يستمتعون بملذات الحياة الاستهلاكية التي يوفرها العصر الحديث، وهم لم يسيطروا على جهلهم الاولي، بل يعيشون تخمة الجهل، على ما عبر الشاعر الاسباني بيدرو ساليناس بتوصيف متقدم، لأن “التعليم لا ينتج الثقافة الا في اضيق الحدود” على رأي ت. اس. اليوت، والفرق كبير، هنا، بين المتعلم والمثقف، وهو ما يتبدى بجلاء ووضوح على (منصات) القصف الاجتماعية ووسائل التواصل التي سمحت (لغبيّ يحمل هاتفاً ذكيّا) ان يتحول رمزاً لتافهين يغدوقون عليه (باللايكات) فيظن نفسه اصبح زعيماً مفرداً قادراً على تحريك اتباعه ومريديه (بكبسة فأرة)، ويصبح من (المشاهير) الذين تفرد لهم وسائل الاعلام صفحات (لاخبارهم) التي يطلبها القراء النهمين الى متابعة الخصوصيات على حساب المعلومات، وتتخذ، عندها، ثقافة الجمهور سمة (الصبيانية) ـ ما انتبه اليه المؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا ـ معتبراً ان هذه الثقافة الجماهيرية الصبيانية لها ذات السمات العقلية لمرحلة المراهقة كالعاطفة الجياشة والتسلية المبتذلة والميل للاحداث المثيرة والشعارات المؤثرة والاستعراضات الشعبية بما يستتبع من تحفيز (العواطف الجمعيّة) ثم تعبئتها طائفياً او عصبيات او سلوكيات وتكتلات.
اذاً، هو عصر الازمة المفاهيمية بامتياز. يقول فيها الشاعر اللبناني الراحل انسي الحاج: “في هذه الظروف التاريخية يتخذ الحديث طابعاً عريباً عجائبياً: شذوذ الوقاحة وعزف منفرد اشبه بالمرض النفسي”.
وهذا ثمن تدفعه المجتمعات عن سنوات طويلة من ثقافة السخافة والتفاهة والتسطيح، التي دفعت بالجمهور الى الانشغال بأمرين: شؤون المعيشة والترفيه، (تماماً كما كان يحدث في روما ايام قرب انهيار الامبراطورية الرومانية بمقولة “الخبز والالعاب”)، فيسجل نجاح كبير لتضليل الناس الذين ينشغلون بشؤون معيشتهم من جهة النزعة الاستهلاكية ونقاشات الاسعار والرسوم والضرائب والرواتب والصحة.. ومن جهة اخرى بالترفيه وحفلات نجوم الفن وكرة القدم.
من السهل تعميم التفاهة والسخافة بغياب الوعي والقيم، ولكن، هل هذا هو دور الاعلام عموماً؟ هل هناك حدود لحرية التعبير؟ هل يمكن التمييز بين الغث والسمين في المعلومات؟ هي اسئلة جائزة، نعم، ولكنها مهدورة لأكثر من سبب.

عن صحيفة “الجمهورية”

مقالات ذات صلة