حين تستحضر واقعة “الحدث” ذكريات الشرقية والغربية!
يوم فقدت الجامعة اللبنانية إسمها وتوزعت فروعا مذهبية

هل “صدمة” اللبنانيين مبررة تجاه قرار بلدية الحدث؟ لا أعرف!
حسبي أن أستذكر ما حصل معي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، كما رويته في كتابي “بعدك على بالي”:
بدأت حياتي البيروتية بحماقة لا يتخيّلها عقل، لكنها ستظلّ الى الأبد صكّ براءتي من كلّ بشاعات الحرب الأهلية!ا
خترت، من دون استشارة أحد، أن ألتحق بكلّية الأعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، ولكن بالفرع الثاني الكائن في منطقة “الفنار”!
كان هذا الخيار المجنون يعني معاكسة ما أفرزته الحرب، فالفرع الثاني تأسّس بشكل مؤقت (كما كلّ الفروع الأخرى لباقي الكليات) لتمكين الطلاب والأساتذة من اتمام عام دراسي، كلّ حسب منطقته وطائفته وهويته السياسية والحزبية! طبعا هذه الفروع ستصبح “دائمة” وستتوّسع مع الأيام، وستفقد الجامعة اللبنانية واحدة من أبرز ميزاتها، وهي أنها جامعة كلّ اللبنانيين…
في ما يتعلّق بي، فأنا كنت أختار “الفرع المسيحي” في زمن صعب! كان ذلك عقب الأجتياح الأسرائيلي للبنان، وفي مناخ دموي أسود تمثلّ بمجزرة صبرا وشاتيلا وبأغتيال الرئيس المنتخب للجمهورية بشير الجميّل.
كثيرا ما سألت نفسي، لاحقا، عن الدوافع التي قادتني آنذاك الى مثل هذا الخيار! لم أجد ما أفسّر به “مزاجي” الوطني، سوى أن تلفزيون لبنان بثّ خلال صيف وخريف 1982 مسرحية “بترا” لفيروز بشكل شبه يومي!
وقد أصاب أنسي الحاج حين قال أن صوت فيروز يخلق الضمير لدى من ليسوا بحاجة اليه! وأنا كنت فعليا بحاجة الى “عقل” وليس الى ضمير!!
من يومها، وأنا “حذر” تجاه الوطن الوهمي الذي خلقه الأخوان رحباني! لقد منحا لبنان ما ليس فيه، لدرجة أن وطنهما الأفتراضي لم يعد يشبه لبنان في شيء، ولدرجة أن من يصدّق هذا الوطن الرحباني، مثلي، قد يعرّض حياته للخطر!
رافقني صديق المرحلة الثانوية نبيل مخول الى “الفنار” في المشوار الأول، لكي أقدّم طلب الخضوع الى امتحان الدخول الذي سيجري بعد أسبوع! كان نبيل يدرك أكثر مني أن ما أفعله هو ضرب من الجنون، وأعتقد أنه حرص على مرافقتي لكي “يحميني”! كان مارونيا من “ممنع” العكارية ويستعد للسفر الى بلجيكا لمتابعة دراسته، ولعله افترض أن مجرد وجوده معي سيخفّف من الريبة التي سيستقبل بها مسلم في بيئة معادية! (كم هي كريهة حرب لبنان)!
بعد دقائق من انهاء معاملة التسجيل لمباراة الدخول، تمّ استدعائي الى غرفة جانبية للأستفسار عن بعض الأمور! كنت الطالب الوحيد الذي يتمّ استدعاؤه بهذا الشكل الغامض الى “تحقيق” تفصيلي لا يعرف الجهة التي تقوم به داخل حرم الجامعة! لاحقا سنعرف أنها خلية طلاب “حزب الكتائب” في الكلية، وأنها فعليا “ادارة” فوق الأدارة!
كان نبيل “بطلا”! لقد أصرّ على التواجد معي، ورأيته يبادر الى الأجابة عني عندما يتعلّق السؤال بأمور شخصية وعائلية “غريبة”، بدءا من أسماء جيران أهلي وصولا الى نوع سيارة أبي!
وفوجئت بنبيل يعطي فرقة التحقيق معلومات مغلوطة، أذكر منها أن سيارة أبي هي “أولدز موبيل”، وأن منزل أهلي في “شارع الأرز”، وأن لدي أقرباء في “فنزويلا”! لقد زورّني بأرتجال متقن…
وحين خرجنا من المبنى، سمح لتوتره أن يظهر: طلال، لقد نجوت بالصدفة! اياك أن ترجع الى هنا!
لكنني رجعت…
كانت مباراة الدخول التي استمرت يومين تفسّر كل شيء!
بأستثناء مسابقتي الترجمة والتعريب، من العربية الى الفرنسية وبالعكس، فأن كلّ المسابقات كانت عبارة عن استكمال للتحقيق السياسي والحزبي.ا
حدى المسابقات طلبت من الطلاب ابداء الرأي بأذاعة “صوت لبنان”! انها اذاعة حزب الكتائب طبعا، والمنبر الأعلامي الحربي الأول والأكثر تأثيرا في تلك الفترة!
مسابقة ثانية أتى فيها السؤال صريحا بشكل كاريكاتوري: هل توافق على المشاركة في أنشطة ثقافية وفنية يقيمها حزب الكتائب في الكلّية؟
لم أضطر لأنتظار صدور النتائج بعد أسبوع…
أدين الى رئيس الخلية الكتائبية بشكر وامتنان، وبود سأحمله له مدى العمر دون أن ألتقيه، ودون أن أعرف سوى اسمه الأول: يوسف.
أخذني يوسف من يدي الى زاوية من الباحة الخارجية، وقال لي بلا مقدّمات: طلال لن تنجح! لا تضيّع الوقت هنا ولا تسألني لماذا! من حسن حظك أن مباراة الدخول في الفرع الأول ستجري بعد 3 أيام، انطلق في هذه اللحظة الى “الكولا” وقدّم أوراقك هناك! وأدار ظهره ومضى…
الفرق بين “الشرقية” و”الغربية” في مطلع الثمانينات، هو تماما كالفرق بين “الفنار” و”الكولا”!
كان الجزء الغربي من بيروت لا يزال محتفظا بنكهته اللبنانية التعددية، وكانت كلّية الأعلام لا تزال تحتفظ هي الأخرى بنكهة الجامعة اللبنانية. الطلاب من كلّ المناطق والطوائف والتيارات، والفريقان الأداري والتعليمي من كلّ الأحزاب. وهذا لن يدوم طويلا للأسف…
والأهم أنني وقعت في غرام بيروت من أول نظرة الى أحيائها الحميمة ومبانيها التي كانت لا تزال ركاما بعد التدمير الأسرائيلي الواسع الذي طال معظم أنحاء العاصمة اللبنانية التي تعرّضت لأعنف وأشرس الغارات الجوية على مدي 90 يوما، وخصوصا محيط مستديرة وجسر “الكولا”، حيث استقرت منظمة التحرير الفلسطينية لسنوات، ولم تكن تبعد منطقة “الفاكهاني” التي اتخذها “أبو عمّار” عاصمة للثورة سوى نصف كيلومتر عن الكلّية التي سأمضي فيها 4 سنوات.
مباراة الدخول لم تكن “بريئة” في الفرع الأول، لكنها لم تصل الى حد التبشير الحزبي!
لقد خيّرونا في احدى المسابقات بين مناقشة القضية الفلسطينية والصراع العربي/الأسرائيلي، وبين مناقشة قضية الصحراء المغربية والبوليساريو! طبعا، لم يكن أحد منا يعرف شيئا عن الصحراء المغربية…
كما ورد في مسابقة أخرى سؤال حول دور الأعلام في التصدّي للعدوان الأسرائيلي، مع أخذ “اذاعة صوت لبنان العربي” نموذجا، وهي اذاعة “حركة المرابطون” التي صمدت حتى وصول الدبابات الأسرائيلية الى مشارف بيروت، ليترك مذيعوها الميكروفونات ويحملوا البنادق ويلتحقوا بالجبهة…
كان عدد المتقدّمين الى المباراة يتجاوز الألف، لن يتمّ قبول سوى 70 منهم!
كنت أعرف أن النجاح، مثل أي شيء آخر في لبنان، يخضع لوساطات ومحسوبيات، وراهنت أن أكون بين الخمسة الأوائل معتبرا أنه من غير المنطقي التلاعب بنتائج المتفوقين!
رويت ذلك لأبي، الذي رواه بدوره للرئيس رشيد كرامي دون أن يطلب منه وساطة صريحة، لكن رشيد كرامي اتصل بالدكتور رضوان مولوي الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير عام وزارة الأعلام وطلب منه الأهتمام لدى ادارة الجامعة بملّفي! كان الدكتور مولوي صريحا: لن يكون بوسعنا انجاحه، ولكن سنتمنى ألا يلحق به اجحاف في حال فوزه بعلامة تجعله بين السبعين المقبولين.
عرفت نتيجتي قبل صدورها رسميا! الرئيس رشيد كرامي قال لأبي ضاحكا: طلال ليس بحاجة الى خدماتنا، انه الأول في المباراة!
حين قصدت الكلّية بعد يومين لأحصل على النتيجة، وجدت اسمي على لائحة المقبولين، ولكنه نزل من “الأول” الى “الرابع”! انه لبنان…
خلال اقامتي البيروتية المؤقتة، كنت أنام في فندق صغير في آخر شارع الحمراء اسمه “أوتيل موزار”…والحقيقة أنني كنت أسهر أكثر مما أنام، مترقبا المفترقات المصيرية في حياتي!
بعد اجتيازي مباراة الدخول، كان عليّ أن أجد سكنا مناسبا. قيل لي يومها أنني سأجد على مدخل جامعة بيروت العربية، سمسار غرف للطلاب يدعى “أبو أحمد”، وأنه سيجد لي طلبي خلال دقائق في محيط “الطريق الجديدة” حيث مباني الجامعة المصرية اللبنانية المعروفة بالجامعة العربية، والتي يقصدها طلاب من سوريا والأردن والعراق، اضافة الى اللبنانيين والفلسطينيين.
وقبل المساء كنت أمتلك أول وسادة بالأيجار لي في بيروت في “بناية الغاردينيا” في منزل “مدام طبّارة”…