التشكيلي كريكور هاغوبيان… تجربة البعد الثالث في نص ايهاماته تشبهنا وتستحق القراءة

===كتب جهاد أيوب

منذ سنوات لم تشهد صالاتنا التشكيلية تجربة جديدة وجدية فيها مغامرة وبحث وتجديد تحرك قلم الناقد، وتغني الحضور، وغالبية ما يعرض عبارة عن تجميع للوحات من هنا وهناك في صالة حزينة بحجة المعرض الجماعي دون الهدف المناط به انشاء معرض، وخارج غاية القلق البحثي حتى تبقى اللوحة اللبنانية متجددة، وفي حال قرر أحدهم الاطلالة من خلال معرضه الفردي تجد اختلافات بالاسلوب، وتكرار الفكرة، وجمود النص، وعدم استطاعة الفنان أن يحرك فكر ذهن المتلقي المشاهد والناقد!

هذا الكلام لا ينطبق على تجربة التشكيلي اللبناني كريكور هاغوبيان الذي قدمها في صالة

(ARCHBISHOP NAREG).

تجربة كريكور ليست تجربة عادية أو عارية من العلم، وليست مجرد صدفة، هي تجربة فنان باحث، قلق، لديه ما يقوله في نص لا يشبه الآخرين، في نص معاصر يفرض حضوره تقنياته فكرته عالمياً ولا يعيش التوحد والوحدة بل هو فينا ومنا ومن صراخنا وصراخ الأشياء التي تحاصرنا ولا نعرف قيمتها.

كريكور حالة تصويرية بأمتياز تصفعك، وتدخلك المحاباة بمجرد قررت النظر إلى اللوحة، وبسرعة تشدك، تطلب منك أن تغوص فيها، وإن حاولت الابتعاد تشاهد حالات جديدة ومختلفة من كل الزوايا، نعم النظر إلى لوحة كريكور تختلف شخوصها تفاصيلها حسب زاويتك حيت تشعر بوجودها بقربك، فتمد يدك لتأخذ أو تشارك ملامسة الأشياء، وهذا ما يوصف بالبعد الثالث في عالم السينما نقله كريكور بذكاء طرح التجربة الجديدة في النص العربي، وبهدوء الفاهم لطبيعة المغامرة من دون حدود تلجمه بل بفرض مفاهيم تشعر فإنها فوضوية وبالحقيقة كل حركة فيها مدروسة بعناية وبدقة لكل تفاصيلها، وبأناقة استخدام الأشياء مع الاصباغ لتخالها خلقت لهكذا جنون…نقل اشيائه نصه بواقعية يغلب عليها الايهامات ليتفوق في تأليف البعد الثالث وقراءة الاشياء!

* الإيهامي

المنحى الإيهامي قلما أستخدم في النص التشكيلي العربي، وفي لبنان بدأت بعض المحاولات الخجولة به مع الحرب اللبنانية بين أوائل الثمانينات ولم يكتب لها النجاح لكونها لم تبنى على علم، وايضاً لكونها وليدة المصادفة دون الولوج بقراءة الأشياء وتزاوج الألوان مع أن تلك الحرب فرضت عجائب في حياتنا وافكارنا( المنحى الإيهامي المنغمس بالواقعية وصل إلى اوجه في أوروبا الشمالية بالقرن السابع عشر عندما قوي التيار البروتستانتي المناهض للفن الكنسي الرافض لتصوير الناس الغلابة العاديين خارج دائرة الارستقراطية!)!

يذكر الاسلوب الواقعي في العالم العربي ولبنان بقيى مسجوناً في المنحى الأكاديمي وغرق في المنظر الطبيعي، والطبيعة الصامتة، وللحق التجربة التشكيلية في لبنان حاولت الخروج عن هذا المنحى بخجل ومن خلال تجارب فردية عشقها النقاد، وتجاهلتها المعاهد للأسف، واليوم يطل كريكور ليفرض تطويرها بجدية تحسب له، وتغني التجارب التشكيلية المحلية والعربية، وتنافس عالمياً بثقة.

* مظهر الأشياء

يستخدم كريكور مظهر الأشياء الخارجية التي نهملها بالعادة، دقيق في كشف أسرارها التي نجهلها نحن، ويدركها هو لكونه يتصالح معها، فما يعرفه عقله هو ذاته الشعور بالاشياء، وهذا يعني علاقته متينة مع مفردات لوحته!

يقرأ كريكور تفاصيل التفاصيل دون أن يفرضها علينا فرضاً فننسجم معها خارج شوشرات النظر وثرثرات الأشياء العشوائية، والجميل استخدامه لمنفث الرش أكثر من الفرشاة( جاء بتقنية التلوين بواسطة منفث الرش إلى لبنان بعد الحرب العالمية الثانية مع تطوير فن التصوير الفوتوغرافي)، وقد أبرزها كريكور هاغوبيان في استعمال الألوان المائية والغواش والزيت والاكرليك مع تنويع مادة القماش والورق، وهذه جرأة من هذا الفنان الذي يعيش البحث الدائم، والشغل على نصه دون كلل، يتصرف بألوانه ونصه كطفل يلعب على لوحة منوعة بيضاء ومن خلال مشاغباته عليها يخرج بما هو يرغب وليس بما صنعته الصدفة!

يأتي بالفكرة، يحطمها، ويعاود تجميعها وتجميلها كما فعل بمجموعة لوحات مزقتها الحرب اللبنانية أواخر السبعينيات من خلال قذيفة أصابت محترفه ومنزله فأتلفت بعض لوحاته فجاء بها، وضعها أمامه، اعاد قراءتها ومن ثم عاود صنعتها وصناعتها لتكون شاهدة على مرحلة شوهت كل ما في لبنان والنفوس الفنية التي كانت الافضل في المنطقة!

كريكور هاغوبيان فنان البحث لا يشبه الآخرين، وهو حالة تستحق القراءة، تثقف البصر، تغني الذهن، وتشعل الذاكرة، وتنعش الذوق…وبكل جرأة نقول تجربة نص لوحة مغامرة التشكيلي اللبناني كريكور ننافس بها، ووجب القاء الضوء عليها، ومشاركتها في معارض خارجية دون حرج، وتكريمها في وطنها قبل أن تغيب الشمس!

مقالات ذات صلة