قراءة في آيتين

"وفي السماء رزقكم وما توعدون*فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون" (الذاريات 22و23).

 

 

 

القرآن الكريم كتابُ الله الخاتم، به ختم الله تعالى الكتب والرسالات السماوية. فكان معجزة خالدة إلى يوم الدين: لا تنقضي عجائبه، حفظه الله في الصدور، كما هو في اللوح المحفوظ، يتلونه حافظاً عن حافظ، وصولاً إلى من تنزّل عليه، محمد صلى الله عليه وسلّم، كما نزل به الروح الأمين: “إنا نحن نزّلنا الذكر، وإنا له لحافظون” (الحجر – 9). مُيسّرٌ للذكر: “ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكر” (القمر-17)، يحفظه بعضهم في عمر العاشرة، ومن بينهم من لا يتكلم اللغة العربية!!. في آياته حِكَمٌ وأحكام، وعلوم وتشريع، وأوامر ونواهٍ، ووعدٌ ووعيد، وثواب وعقاب، وسلاسة وبلاغة، وقصص وعبر، وهدى ونور، وشفاءٌ لما في الصدور، ويؤمّن السعادة في الدنيا والآخرة لمن التزم بما أمر اللهُ به، وانتهى عن ما نهى اللهُ عنه.

إستوقفتني كثيراً آيات الرزق في القرآن الكريم، ولكل منها معنى ومقصد، وفي كل منها توجيه وإرشاد وتربية، وخصوصاً الآيتان من سورة الذاريات “وفي السماء رزقكم وما توعدون* فوربّ السماء والأرض، إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون” (الذاريات 22و23).

فالرزق مكتوب في السماء منذ أن نُفخت الروحُ في الإنسان وهو في بطن أمه، كما جاء في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: “إنّ أحدكم يُجمع خَلْقه في بطن أمه، أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد،….”

والرزق ينزل من السماء، “وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزّله إلا بقدرٍ معلوم” (الحجر21) وفي آية أخرى “ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوْا في الأرض، ولكنّ ينزل بقدرٍ ما يشاء” (الشورى -27). وقد ورد في الأثر أن الله تعالى يقول: “إنّ من عبادي من لا يُصلح إيمانُه إلا الغنى، ولو أفقرتُه لأفسدَه ذلك، وإنّ من عبادي من لا يُصلح إيمانُه إلا الفقر، ولو أغنيتُه لأفسدَه ذلك…..” ويقول الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، أن “الأسباب الخفية للرزق أعظمُ مما ظهر للخَلق، بل مداخلُ الرزق لا تُحصى، ومجاريه لا يهتدى إليها، وذلك لأن ظهورَه على الأرض، وسببُه في السماء (وأسرار السماء لا يُطَّلع عليها). قال الله تعالى: “وفي السماء رزقكم وما توعدون” (الذاريات 22).

أما الآية الثانية: “فوربِّ السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون” ففي بدايتها قَسَمٌّ عظيم جداً من رب العالمين، لم يرِدْ في القرآن الكريم أقوى منه أو حتى مثله أبداً. ذلك أنّ الله تعالى، يُقسم بذاته العليّة، التي خلقت كل شيء في هذا الكون الواسع والفسيح، والتي وسِعتْ كل شيء علماً. فقد جعل الله السماء سقفاً مرفوعاً، ووسّع أرجاءها، ورفعها بغير عمدٍ حتى استقلّت كما هي: “والسماء بنيناها بأييدٍ وإنّا لموسعون*والأرض فرشناها فنعم الماهدون” (الذاريات 46 و47). ومن يتأمل عظمة هذا الكون واتساعه وضخامة مجراته ونجومه وكواكبه، ومن يتفكّر مليّاً في حركاتها الذاتية والمشتركة، وفي تجاذبها في ما بينها، وفي ما ينتج عن ذلك كله، يدرك طلاقة قدرة الله تعالى وحكمته في قوله: “لَخَلْقُ السماوات والأرض أكبرُ من خلق الناس ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون” (غافر 57). يقول صاحب الظلال رحمه الله: “وليس على قدرة الله أكبر ولا أصغر، ولا أصعب ولا أيسر، فهو خالق كل شيء بكلمة. إنما هي الأشياء كما تبدو في طبيعتها، وكما يعرفها الناس ويقدّرونها”.

أما الأرض ففيها من المخلوقات الكثير الكثير، من جبال رواسي، وأنهارٍ جارية، وبحارٍ ومحيطات ساكنة، ومياه جوفية سالكة وراكدة، وحيوانات زاحفة وطائرة وسابحة ومنها ما يدبّ على اثنتين ومنها ما يدبّ على أربع أو أكثر، ومنها ما يبيض ومنها ما يلِد، ومنها غير ذلك، وأشجارٍ ونباتات مختلفة كذلك، وكلها تُسقى بماءٍ واحد، ونفضّل بعضها على بعضٍ في الأُكُل، وكل ذلك وغيره كثير جداً، ومسخّرٌ لهذا الإنسان الذي خلقه ربه من صلصال من حمأٍ مسنون، وجعل نسله من ماءٍ مهين. وكرّم الله تعالى هذا الإنسان على سائر مخلوقاته بأن جعله خليفة في الأرض، وعلمه الأسماء كلها ورزقه العقل ليتعلّم، وليطوّر العلوم على أنواعها، ولتكون نافعة مفيدة له في حياته وذخراً له في آخرته إذا أحسن استعمالها.

والآيات التي تدلّ على عظمة خلق السماء والأرض في القرآن الكريم تزيد على الـ180 آية أذكر منها ما جاء في سورة النازعات: “أءنتم أشد خلقاً أم السماء، بناها*رفع سمكها فسواها* وأغطش ليلها وأخرج ضحاها* والأرض بعد ذلك دحاها*أخرج منها ماءها ومرعاها*والجبال أرساها*متاعاً لكم ولأنعامكم” (النازعات 27 – 33) و”إن في خلق السماوات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس….” (البقرة 164) …. وفي كل منها وصفٌ لبعض مظاهر القوة الكبرى وطلاقة القدرة الإلهية العظمى، والتي تتجلى عظمتها وتَثبتُ دقة وصفها في الإكتشافات العلمية الكونية المتواصلة، وعلى مر العصور والأزمان.

أما نهاية الآية الثانية وهي موضوع القَسَم العظيم “إنه لحق مثلما أنكم تنطقون”، فهو تأكيدُ رب العالمين بأن الرزق مكتوب في السماء، وأن ذلك “حق” واضح وجليّ، وتشبيه ذلك بكلام أحدِنا مع الآخر. فكلّنا يرى ويسمع الآخر في كلامه، وفي نطقه، ولا يخالطه في هذه الحقيقة الساطعة أدنى شكّ أو ظنّ أو ريب، كذلك الرزق المكتوب. وفي الإيمان بذلك راحة نفسية، وإطمئنان قلبي، وقناعة ورضى من رب العالمين بما كتبه الله تعالى لعبده من رزق ولو كان قليلاً. يقول الإمام الحسن رحمه الله في هاتين الآيتين: “لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى، ثم لم يصدّقوه”.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: “طوبى لمن هُدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع” (رواه الترمذي). والقناعة لا تمحي الطموح المشروع، بل والمطلوب. فهي قيمة وسطية بين الطمع من ناحية والتواكل والتكاسل من ناحية أخرى. يقول أحد الحكماء: “من رضيَ بقضاء الله لم يُسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد”.

يُروى أن الأصمعي قال: “أقبلتُ ذات يومٍ من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في بعض سككها، إذ طلع أعرابيّ جلِف جافّ على قعود له، متقلداً سيفه، وبيده قوس، فدنا وسلّم، وقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني الأصمع. قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلتُ: من موضعٍ يتلى فيه كلام الرحمن. قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلتُ: نعم. قال: اتلُ عليّ شيئاً منه، فقلتُ له: انزل عن قعودك، فنزل وابتدأتُ بسورة الذاريات، فلما انتهيتُ إلى قوله تعالى: “وفي السماء رزقكم وما توعدون (الذاريات آية 22) قال: يا أصمعي، هذا كلام الرحمن؟ قلت: إي والذي بعث محمداً بالحق، إنه لكلامُه، أنزلَه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم، فقال لي: حسبُك، ثم قام إلى ناقته، فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعنّي على تفريقها، ففرقناها على من أقبل وأدبر. ثم عمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما وجعلهما تحت الرَّحل، وولّى مدبراً نحو البادية، وهو يقول: “وفي السماء رزقكم وما توعدون”. فأقبلتُ على نفسي باللوم، وقلتُ: لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي. فلما حججتُ مع الرشيد دخلتُ مكة، فبينا أنا أطوفُ بالكعبة، إذ هتفَ بي هاتفٌ بصوتٍ دقيق، فالتفتُ فإذا أنا بالأعرابي نحيلاً مصفاراً، فسلّم علي، وأخذ بيدي، وأجلسني من وراء المقام، وقال لي: اتلُ كلام الرحمن، فأخذت في سورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله تعالى: “وفي السماء رزقكم وما توعدون”، صاح الأعرابي: وجدْنا ما وعدَنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غيرَ هذا؟ قلتُ: نعم. يقول الله عز وجل: “فوربِّ السماء والأرض إنه لحقّ مثل ما أنكم تنطقون” (الذاريات – 23)، فصاح الأعرابي، وقال: يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى أقسم بنفسه مرتين، ألم يصدّقوه حتى ألجئوه إلى اليمين، قالها ثلاثاً، وخرجتْ فيها روحه”.

أختم بالقول، بأن الرزق من الله ليس مالاً وحسب، بل أرزاق ونِعَمٌ لا تُعدّ ولا تُحصى، فالإيمان الصادق، والعبادة الخالصة لله والحمد والشكر لله، والرضا بقضاء الله والقناعة بما قسم، والأمن والأمان، والصحة والعافية، والزوجة والذرية الصالحة، والعلم النافع والعمل الصالح، وغير ذلك كثير، كلها أرزاق ونِعَمٌ من الله الرازق المنعم، والمعطي والواهب، وكل شيء عنده بمقدار.

 

( التمدن)

مقالات ذات صلة