الحريري بين نفاق الرفاق وتضييق الخناق

ثمة شيء انكسر في علاقته مع السعودية ولن تصلح خصوصا مع الأمير محمد بن سلمان

===كتب سلمي كليب

للمرء أن يتخيل شعور رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري مع كل زيارة له الى السعودية. لا شك أنه يطرح أسئلة كثيرة قبل أن يصل الى الرياض. يتأمل كثيرا. ويقلق كثيرا أيضا. فهو لم ولن يعرف أبدا ماذا ينتظره. من سيستقبله. ماذا سيُطلب منه، وبماذا سيعود. انتهى العصر الذي كان فيه الرئيس الشهيد رفيق الحريري الابن المدلل للسعودية، والرجل الذي ساهم في نشر الفكرة السعودية بقدر ما ساعدته المملكة على توسيع طموحاته المالية أولا والسياسية ثانية.

ليست العلاقة جيدة بين السعودية والحريري ولن تصبح جيدة خصوصا مع الأمير محمد بن سلمان. ثمة شيء أنكسر وقد لا يعود، مهما حاول البعض تلميعها. فالرجل لم يواجه حزب الله كما أرادت الرياض، ولم يحقق اكتساحا انتخابيا كما وعد، بالعكس تماما هو اضطر للقبول بتسوية قضت بإيصال الرئيس ميشال عون الى الرئاسة واعادته هو الى رئاسة الحكومة مع كل ما تطلب ذلك من تنازلات لم تُرض الرياض وأبو ظبي. وهو سعى لتدوير كل الزوايا خصوصا مع حزب الله لاستعادة وهج رئاسة الحكومة وإعادة تعويم نفسه ماليا حيث تنهار مؤسساته واحدة تلو الأخرى وليس أدل على ذلك مما تتعرض له شركة اوجيه وتلفزيون وجريدة وموقع المستقبل.

الحريري محبوب في لبنان من قبل الجزء الأبرز من تياره ومن أهل السنة، ولكن أيضا من أطراف أخرى. أول الحب جاء من والده. ثم لأنه يتمتع بكاريزما شبابية جيدة عززها بجولات وتصرفات وتصريحات ولقطات “سِلفي” قرّبته كثيرا من الناس، حتى من أولئك الذي خاصموه بشدة حين أخذ موقف العداء حيال القيادة السورية في السنوات التسع الماضية. هذه الشعبية الشخصية ليست كافية، لا بل هي نفسها مُزعجة لمنافسيه داخل البيت السُني عينه، فيتهافت مدّعو البطولة حاليا لتكسيره على أمل الحلول مكانه في أفضل الأحوال، أو الحصول على رضى ومكرُمات من يعمل على اضعافه في الداخل والخارج.

والحريري ارتأى بعد تفكير طويل أن يسلك طريق التسويات والوسطية في لبنان. صحيح أنه يستمر في مهاجمة حزب الله وسلاحه ومهاجمة القيادة السورية في العلن، لكنه ينسق تحت الطاولة مع حزب الله ويغض الطرف عن الزيارات الى دمشق ولا يتردد في استقبال سفير إيران في بيته، ناهيك عن العلاقة التنسيقية الدائمة بين ” داهية” الملف الأمني والسياسي اللبناني في حزب الله الحاج وفيق صفى وفريق الحريري.

الآن يقف رئيس الحكومة الشاب على مفترق طرق. فهو يرى في داخل بيت المستقبل وفي طائفته من ينصب له الفخاخ. وهو يتعرض لضغوط مستمرة بضرورة مواجهة حزب الله في سياق المعركة الأميركية والسعودية والاماراتية مع إيران. ثمة غرفة عمليات خليجية حقيقة سياسية ومالية قائمة في بيروت تحث العمق السني على التحرك بقوة للنهوض حتى لو تطلب ذلك مضاعفة الضغوط القاتلة على الحريري.

الحريري يرى كذلك أن منافسيه المُفترضين الذين يعطونه من طرف اللسان حلاوة ويعملون للحلول مكانه يتحركون وينجحون. على رأس هؤلاء رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي الذي يتقدم بخطوات حثيثة في طرابلس كان أبرز تجلياتها نجاحه في السيطرة مع حلفاء مؤقتين على نقابتي المحامين والأطباء. واضح أن طموحَ ميقاتي هو جذب ُالناقمين على الحريري في تيار المستقبل الى حزبه. وهو يتمتع بإمكانيات مالية تخوله لعب هذا الدور.

ينطلق نجيب ميقاتي من معادلة تقول بضرورة إعادة الاعتبار الى دور وموقع الطائفة السنية في الحكم. التمسك باتفاق الطائف أولوية. هو يقول صراحة بأنه ليس ضد الحريري ولكنه يريده قويا ولذلك التقى مع الرئيسين فؤاد السنيورة وتمام سلام مؤخرا. ورئيس الحكومة بادله ما يقوله بالاعتراف بأن ” ميقاتي خير من يمثل طرابلس”. لكن هذه المجاملات وعلى جمالها لا تلغي الهدف الميقاتي الأهم وهو الحلول يوما ما مكان الحريري.

كثيرون يريدون هذا الموقع. ما شهدناه في الأيام القليلة الماضية من تحرك لوزير الداخلية السابق المثقف والقارئ الجيد للمتغيرات نهاد المشنوق صوب دار الفتوى ، ثم ما تسرّب عن مقربين منه ضد ضعف الحريرية السياسية، ثم تخبط تلفزيون المستقبل في افساح مكان واسع لتصريحه ثم الهجوم عليه مداورة بعد أيام قليلة في الرد على رفيقه الكاتب نديم قطيش، يؤكد أن المشنوق يسير حثيثا صوب فرض نفسه في المعادلة. هذا السير لا تعارضه الامارات، بل على العكس تماما تشجعه في مكان ما. لكن المشنوق الذي يضع بيروت في صلب أولوياته الآن يحتاج الى الكثير في بيئته التي لم تنصفه رغم كل جولاته الانتخابية الى كل حي وبيت وشارع. يتهمونه بالفوقية والتعالي مقابل تواضع الحريري في مخاطبتهم. سيحاول اذا أن يحث أكثر فأكثر العمق البيروتي في المرحلة المقبلة.

ماذا يفعل الحريري؟

لا يزال الرجل يملك أوراقا كثيرة رغم تعرضه للضربات من أهل البيت في الداخل والخارج. هو القائد السني الأقوى حتى اشعار آخر. وهو شريك في التسوية الرئاسية. يربط مصيره بمصيرها. فلن يتزحزح عن موقعه الا مقابل سقوط التسوية كلها أي انهاء عهد الرئيس عون قبل أوانه وهذا مستحيل.

هذا يفترض أذا مواجهةً التهديد الحقيقي له في مفهوم الدولة نفسها. فالحريري يرى مثلا أن وزير الخارجية رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ينسج شبكة مهمة ومتشعبة في مؤسسات الدولية. يريد أن يزرع رجاله في معظم الإدارات كمقدمة لفرض نفسه المرشح الأول في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لم يوفّر باسيل فرصة الا وتحدث فيها عن استعادة حقوق المسيحيين. ذهب حتى الحديث عن السنية السياسية، ثم قدّم سجادة حمراء للحريري لمهاجمته في حديثه عن ” العمالة السعودية” في لبنان.

سنشهد إذا في المرحلة المقبلة، سعيا واضحا من الحريري للحد من طموحات باسيل مع سعي آخر لإعادة ربط علاقات قوية مع الحلفاء. سيحاول رئيس الحكومة أن يفرض نفسه الطرف الأقوى في الحفاظ على حقوق السُنة في مواجهة هجمة باسيل.

حزب الله ليس منزعجا أبدا من حركة باسيل وصدامه مع الجميع، ولا هو منزعج من الهجمات على الحريري. هو يعزز موقعه كبيضة القبّان في المعادلة الداخلية. وهنا كل مشكلة الحريري. فالمطلوب منه سعوديا وأميركيا واماراتيا لجم الحزب ومنعه من توسيع دوره. وهو بحاجة للحزب في مجالات عديدة. لا شك أنه في موقع لا يُحسد عليه. ومن راقبه في الجلسة الأخيرة لمناقشة الميزانية، رأى في عينيه شرودا يُعبّر عن الكثير.

الخطورة في الأمر حاليا، أنه في ظل هذا الاحتقان السياسي، والتخبط المتعدد الأوجه والضغط الاقتصادي الكبير، فان أطرافا كثيرة قد تدخل على الخط أمنيا بتفجيرات واغتيالات لأنه من غير المسموح أن يستقر لبنان وينتعش فيما حزب الله له دور الأولوية وسوريا تُنهي قريبا في ادلب حربها، وأميركا وإيران على مشارف التفاوض اذا نجحت الوساطات الدولية….

لا بد من معجزة. والحريري يدرك عن لا معجزات في السياسة، فإما يستمر في الوسطية فيغضب حلفائه وأما يوجه المعركة صوب استعادة حقوق السنة فيخفف الضغط ويعزز الشعبية. أما الصدام مع حزب الله فهو في الظروف الحالية انتحاري. وهذا ما لا يفهمه حلفاء الحريري. أما الاستقالة فهي غير واردة، على الاقل حاليا، لانها تعني انتهاء الحريري ماليا وسياسيا وشخصيا.

مقالات ذات صلة