مِحْنَةُ الإسلام مع أبنائه/ الشيخ ماجد الدرويش

المتتبع للحياة الدينية في العالم الإسلامي لن يعجزه إدراك  المحنة التي يعيشها العقل الواعي في محيط غارق في وهدة الإنغلاق على الذات، والتقوقع داخل جدران الأنانيات المفرطة، بل داخل سياج عال من السذاجة والانعزال عن الواقع.

ومع أن الإسلام دين ارتضاه الله تعالى للبشرية، كل البشرية، وأراده رحمة للعالمين، كل العالمين، إلا أن الغالب على أتباعه اليوم ، وبخاصة  من يصنفون أنفسهم دعاة ووعاظا وموجهين ، أنهم يتعاملون مع الإسلام وكأنه خاص بالمسلمين، وأن العالم بالنسبة لهم يبدأ من باب المسجد وينتهي عند محرابه، فتراهم يتقوقعون داخل جدران البناء لا يعرفون ما الذي يجري خارجها، ولا يعنيهم أمر الموجودين خارج مملكتهم، ولا يكلفون أنفسهم عناء محاولة بدء حوار مع من ينبغي أن يكونوا هدفا لإيصال دعوة الإسلام إليهم.

وهذا الواقع يكاد يكون المسؤول الأول والأخير عن تقهقر الإسلام في ساحة الشهود الحضاري. لأنه يحتاج إلى كوكبة عاقلة واعية تحسن تبليغه وعرضه وشرح مسائله والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة للمخالفين بالتي هي أحسن، وهو ما يبدو أننا لا نحسنه، وقد يكون السبب ما نشهده من حروب معلنة وغير معلنة ضد الإسلام، وهي لا تخفى، وآثارها وحشية ومدمرة، الأمر الذي يورث عند عامة المسلمين حالة من السخط العام التي قد تتحول إلى حالة من العداء المصحوب بإرادة الانتقام.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه، ألم يتعرض الإسلام منذ بداية بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى حروب ومحاولات استئصال كلفت الكثير من الدماء؟ فكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام حيال ذلك؟

هل وضعوا سائر الناس من غير المسلمين في خانة اتهام واحدة؟

هل أخذوا الأتباع بجريرة المتبوعين؟

أم أنهم كانوا يميزون في التعامل بين التابع والمتبوع؟

ألم يكن همهم إزالة العوائق التي أقامتها الأنظمة الحاكمة لتحول بين الناس وبين أن تبلغهم دعوة الإسلام؟

أسئلة لا بد أن يطرحها كل من نصب نفسه اليوم داعية، أو ناطقا باسم الإسلام..

ذلك أن الذي رأيناه من بدايات الإسلام التي يفترض أنها تشكل المسار الذي ينبغي أن نقتفي آثاره ، أنه فرق بين الطبقات الحاكمة وبين أتباعهم، وظهر ذلك فيما حكاه القرآن عن مجموعات من الناس مقتنعة بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها لا تملك الجرأة على مخالفة سطوة السلطة الغاشمة،  فقال عنهم: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا)، فهم مقتنعون أنه الهدى، ولكنه هدى لا يملك القوة الكافية لحمايتهم من بطش الحاكم الظالم، فأمثال هؤلاء الحل المناسب لهم هو إيجاد تلك القوة التي يقتنعون أنها تحميهم، لا أن نتوجه إليهم بالشتم واللعن، فإن مثل هذه التصرفات تدفع بهم إلى أحضان من ندعي أننا نريد تخليصهم من ظلمهم…. هذه حالة.

وحالة أخرى تتمثل في أتباع الزعماء والقادة في قومهم، وخير من يمثل هذه الحالة رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، وهو زعيم الخزرج في زمانه، وكثير من قومه مقتنعون بزعامته، وليسوا جميعا منافقين مثله، بل منهم المؤمن المقتنع به، والدليل على ذلك أنه يوم أُحُد استطاع أن يسحب ثلث الجيش، هذا الثلث نفسه لم يستجب له عندما عاود الكرة يوم حصار حصن خيبر، فانسحب وحيدا، وذلك بعد فضح حركة النفاق في المدينة بعد حادثة الإفك، ويومها نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر وقال له: أرأيت يا عمر، لو أنني أذنت لك بقتله يوم أحد لاشرأبت له أنوف تريد قتله الآن.

إذن يوم أحد لم يكن أتباعه كلهم منافقين، وإنما كانوا مقتنعين بزعامته حتى تكشفت لهم حاله فانفضوا عنه.

ولولا الأسلوب الحكيم الذي اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم حرصا منه على هؤلاء الناس، لربما أخذت الأمور مجرى آخر…

وكذلك موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد فتحها، فقد فرَّق بين عامة الناس وبين الذين يحرصون على القتل والمحاربة، لذلك كان الموقف من العامة (إذهبوا فأنتم الطلقاء) ، ومن مؤججي الفتن من القادة (اقتلوهم ولو وجدتموهم مسورين بأستار الكعبة) ، بل حتى هؤلاء عفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاؤوا تائبين.

والأمثلة تطول، غير أننا نريد أن ندلف إلى واقعنا، ويجب علينا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: هل الغرب كله عدو للإسلام؟

كثير من الحوادث تقول لنا : لا ، بل إن غالب الشعوب الغربية لا تحب الظلم، ولا تحب القتل والحروب ، وهي التي اكتوت بنيرانها في حربين كونيتين مدمرتين…

ولعل موقف العالم من مجزرة نيوزلندا الأخيرة يبين لنا ذلك .. وهذا يحتم علينا مسؤولية أخلاقية كبيرة تجاه الآخرين، بل ومسؤولية دينية، ولا يمكن أن أصل إلى حوار معهم إذا كانت العلاقة مبنية على الحقد والكره، وعلى الأخص من المسلم تجاه غيره، إذ كيف ستدعوه إلى الخير الذي عندك إن كنت لا تريد له الخير؟

والكلام في هذه القضية يطول جدا، غير أن الحقيقة المرة التي نعيشها اليوم نحن المسلمين أننا في غالبنا لسنا حملة شعلة الهداية إلى الآخرين، وكأننا في كثير من المواقع نحمل في قلوبنا حقدا على الآخرين، واحتقارا لهم، وإرادة قتلهم إن استطعنا، وهذا أمر ملاحظ في كثير من المواقف والتعليقات التي تتناول قضايا قد لا تهم المسلمين في شيء ، لكنها تهم الذين يفترض أن يهتم بهم المسلمون لإيصال الخير المتمثل في الإسلام إليهم..

إنها حقيقة مرة نعيشها تنبئ عن أن الأمة فعليا منسحبة تماما من ساحة السباق الحضاري… وأن الأمة لا تقرأ السيرة النبوية المطهرة قراءة واعية ، ورحم الله من قال يوما (الدعوة إلى الله حب) فإذا لم تحب الناس فكيف تدعوهم؟

مقالات ذات صلة