في أسرار سورة ”الكهف”: علاج لفتنة الدين والمال والعلم والسلطة

===كتب د. عبد الإله ميقاتي

كتابُ الله الخاتم، كتابٌ مبارك، أنزله رب العالمين، للناس كافة “ليدّبّروا آياته وليتذكر أولوا الألباب” (ص – 29). وسورة الكهف خصّها الله تعالى بفضائلَ عديدة، منها القصص الأربع: قصة أهل الكهف، وقصة الجنّتين، وقصة موسى والخضر عليهما السلام، وقصة ذي القرنين، وفي هذه القصص معالجات لفتنٍ أساسية كفتنة الدين، وفتنة المال، وفتنة العلم، وفتنة السلطة.

وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام، محطاتٌ ثلاث مع فتنة العلم، نأخذ منها واحدة هي قصتهما مع أصحاب السفينة. تبدأ القصة عندما سأل قومُ موسى عليه السلام نبيَّهم: أيّ الناس أعلم؟ فقال لهم: أنا أعلمُ أهل الأرض. فأوحى الله إليه أنّ عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلمُ منك. (وذلك ليعلّمه التواضع في حمل العلم، وفي طلبه أيضاً). وسخّر الله تعالى لموسى الأسباب ليلتقي بهذا العبد، وهو الخضر عليه السلام، ولتبدأ الصحبةُ في رحلة طلب العلم. “فوجدا عبداً من عبادنا، آتيناه رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علما* قال له موسى هل أتبعك على أن تعلّمني مما عُلّمتَ رشدا” (الكهف-65 – 66). وتمضي الآيات: “فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها، قال أخرقتها لتُغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمرا” (الكهف-71)، ليكون التوضيح في نهاية الرحلة: “أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردتُ أن أعيبها، وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينةٍ غصبا” (الكهف 79)، أي أنّ الملك الظالم كان يأخذ كل سفينةٍ تُعجبه غصباً عن أصحابها. فكان خَرقُ السفينة بعلمٍ مسبقٍ من الخضر عليه السلام حتى لا يأخذها الملكُ الظالم.

ولنا مع هذا الجزء من القصة وقفات:

• اللهُ تعالى هو العليم الخبير، وعلمُ الله علمٌ مطلق لا حدود له، هو عالم الغيب والشهادة، و”يعلم ما تكسب كل نفس” (الرعد 42)، “ويعلم السرّ وأخفى” (طه -7)، و”يعلم ما تسرون وما تعلنون” (النحل 19)، “ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين” (الأنعام 59). ورحلةُ العلم على الأرض بدأت مع آدم عليه السلام، بأن علّمه الله الأسماء كلها، ووهبه نعمة العقل، ليميز بها الخبيث من الطيب، والخير من الشر، وذلك دون سائر مخلوقاته الأخرى. وكذلك ليطوّر العلم الذي بدأه مع آدم عليه السلام، بما يخدم به الإنسانية جمعاء، وفي ذلك رحمة للعالمين. والعقل – كما وصفه الشاذلي رحمه الله – “إنما هو التخوّف من الإثم، والنظر في العواقب، والأخذ بالحزم”. وإذا كانت مسيرة العقل تبدأ من العدَم، عندما يولد الإنسان، ثم تنمو فتكون غريزيّة فلا يدرك الإنسانُ إلا حاجته، ثم تكبر لتدركَ حقائق الوجود وتميّز بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، “حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة”، ثم تبدأ بعد ذلك بالنقصان، لتنتهي إلى زوال “حتى لا يعلم بعد علمٍ شيئا”، فإنّ مسيرة العلم، هي كل يومٍ في تراكمٍ وفي زيادة. وفيها تطوّر للعلوم والمعارف على أنواعها، ونموّ للحضارة الإنسانية في الاتجاه السليم، وفي ذلك رحمة للعالمين، لأن الإسلام هو دين الرحمة للناس أجمعين.

• إنّ في طلب موسى عليه السلام للتعلّم – وهونبي الله وكليمه – من الخضر عليه السلام، إشارة واضحة وجلية بأن الله تعالى قادرٌ على أن يضع بعضاً من سرّه وعلمه في أضعف خَلْقه، أمام نبيٍّ من أنبيائه موسى عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل. وفي ذلك إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يطلب العلم النافع حيثما وجده، لا فرق في ذلك بين كبيرٍ وصغير، أو حاكمٍ ومحكوم. فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، كما ورد في الأثر. وقد سمّى بعض العلماء هذا العلم بالعلم اللدنّي (وعلمناه من لدنّا علما)، وهو علمُ الغيب اليقينيّ الذي كتمه الله عن جميع خَلْقه إلا من شاء، رحمةً بهم. وقد يكون في معرفته، أحياناً، ندمٌ وحسرة على الواقع والحاضر. فها هو النبي عليه الصلاة والسلام تمنّى أنه حجّ متمتّعاً لا قارناً، لولا أنه ساق الهدي. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سُقْتُ الهدي، ولحَلَلْتُ مع الناس حين حلّوا” (صحيح البخاري) أي (لو تأخّر من أمري ما تقدّم من سوْق الهدي ما فعلته).

• “آتيناه رحمة من عندنا، وعلّمناه من لدنّا علما”. لقد قرن الله الرحمة بالعلم، وقدّمها عليه، والرحمة صفةٌ من صفات الله العلي القدير الذي “كتب على نفسه الرحمة” (الأنعام-12). و”الله تعالى – كما جاء في الحديث الشريف – جعل الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرسُ حافرَها عن ولدها خشية أن تصيبه” (رواه البخاري). وقد وردت صفة الرحمة في إسمين من أسماء الله الحسنى هما: “الرحمن” و”الرحيم”. فالأول “الرحمن” ورد في القرآن الكريم 57 مرة، و”الرحيم” ورد 34 مرة. ومن العلماء من قال بأن “الرحمن” هو إسم الله الأعظم. وهو يختصّ بالله عز وجل، فلا يجوز إطلاقه في حقّ غيره. ومن يتأمل مطلع سورة الرحمن، ويتفكّر في قوله تعالى: “الرحمن*علّم القرآن*خلق الإنسان*علّمه البيان” (الرحمن 1÷4) يدركُ، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن التعليم لا يكون إلا بالرحمة بالمتعلمين، ولا يهدف إلا إلى الرحمة بالناس والتراحم في ما بينهم. والرحمن بفضله وبرحمته علّم القرآن رحمة بالإنسان، والقرآن الكريم هو أجلّ النعم، وأرقى القيم، رسالةً وموعظةً معجزةً إلى جميع الأمم، ليخرجهم به جميعاً من الظلمات إلى النور. وقد درجت العادة في أيامنا الحاضرة أن نَقرُن التربية بالتعليم، وقدّمناها على العلم أيضاً. وغاب عن بالنا أنّ التربية قد تكون على الخير أو على الشر، على الاعتدال والوسطية أو على العصبية والعنصرية. وأكبر مثال على ذلك ما يجري في فلسطين المحتلة، التي ينصّ قانون التعليم للدولة العبرية المحتلة فيها منذ العام 1953 على أنّ: “التعليم في دولة إسرائيل يجب أن يرتكز على قيَم الثقافة اليهودية والولاء لدولة إسرائيل والشعب اليهودي…” (موقع نون). والعلمُ أداةٌ في خدمة ما تتربى عليه الأجيال الصاعدة. لذلك كانت الآية الكريمة، تربطُ العلمَ بالرحمة ربطاً وثيقاً وتهدف إليها، والرحمة أوسع وأشمل وأدق في التعبير من التربية، خصوصاً، وأن الأمور الثلاثة التي حصلت في رحلة موسى مع الخضر عليه السلام، كان فيها تصرفُ الخضر عليه السلام لما فيه رحمة بأصحابها، رغم عدم اطمئنان موسى عليه السلام في البداية، لمجريات الأمور بما له من علمٍ حاضرٍ حولها.

• وعن أهمية الربط بين الرحمة والعلم، فقد ورد في الصحيحين، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعون نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنّه قتل تسعة وتسعون نفساً فهل له من توبة؟ فقال الراهب: لا. فقتله وكمّل به مائة. ثم سأل عن أعلمِ أهل الأرض، فدُلّ على رجلٍ عالم. فقال إنّه قتل مائة نفسٍ فهل له من توبة؟ فقال العالم: نعم، ومن يحولُ بينه وبين التوبة؟ إنطلقْ إلى أرضِ كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد اللهَ معهم، ولا ترجع إلى أرضِك فإنها أرضُ سوء. فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قطّ. فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم. فقال قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة” والمغزى من القصة أنها تؤكد على التكامل بين الرحمة والعلم في الحُكم عند العالِم، مع الأخذ بأسباب قبول التوبة ومراعاة البيئة المحيطة، مقابل عِلم الراهب دون الأخذ بذلك.

• أما الآية الثانية “على أن تعلّمني مما عُلمت رشداً” فهي التي توضح الهدف الأسمى من الرحلة ومن المصاحبة، ومن الجمع بين الرحمة والعلم، ألا وهو الرشد والرشاد. وهي تدلّ على تحري الرشد، بمعنى الحرص الشديد على اتباعه والتزامه والأخذ بأسبابه والسير في طريقه، ولا يكون ذلك إلا في سلوك سبيل طلب العلم والمعرفة، المقرونة بالرحمة الإنسانية، إذ لا رشد مع القهر والجبر والترهيب في التربية، والله تعالى يقول: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” (البقرة 256). “والرشد – كما جاء في موقع حراء – هو قمة وعي الإنسان واكتماله ونضجه، وهو مبني على طلب الأكمل والأحسن وتحري الصواب في المواقف والآراء والتصرفات الفردية والجماعية”. و”الرشيد” اسمٌ من أسماء الله الحسنى، وصفةٌ من صفاته العلى، وهو الذي يُرشد خَلْقه إلى مصالحهم في الدنيا قبل الآخرة. “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” (الملك -14). والرشدُ هو خلافُ الغيّ، إذ يقول تعالى: “سأصرف عن آياتي الذين يتكّبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروْا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروْا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلاً، ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين” (الأعراف – 145). واليوم يكثر الحديث عن الحكم الرشيد، والحوكمة الراشدة، والمؤسسات الراشدة، وترشيد الإنفاق. وقد أولى القرآن الكريم سبيل الرشد أهمية بالغة في سلوك الإنسان وحياة المجتمعات وأظهر قواعدها منذ أكثر من أربعة عشر قرن من الزمان حين جعلها هدفاً ورسالة للعلم، على لسان موسى عليه السلام في الآية الكريمة: “على أن تعلّمني مما عُلّمتِ رشداً”.

وأزمة العالم اليوم تكمن في أنّ كل مجتمع من المجتمعات قد وضع لنفسه أهدافاً وقيماً تخدم مبادئه وعقيدته، ويسعى إلى تنشئة الأجيال الصاعدة وتربيتها عليها. وكل ذلك يشكّلُ تربةً خصبةً للخلافات المستحكمة بين الشعوب والأمم التي تتحول إلى حروب وقتل ودمار، واستنزاف للطاقات والثروات. وإسلامنا الحنيف يدعو إلى شمولية المبادئ والقيم الإنسانية التي تهدف إلى الرشاد، وتنضوي تحت عنوان “الرحمة”، ليتراحم الناس جميعاً فيما بينهم. والله تعالى يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام في محكم التنزيل: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء – 107)، كلّ العالمين. وفي ذلك حصرية بالغة للرسالة النبوية بالرحمة الإنسانية للجميع.

أختم بالقول بأن رشاد البشرية جمعاء لا يكون إلا عن يقينٍ ثابت وإيمانٍ صادق، وقدرةٍ على ضبط النفس، ونظرٍ ثاقبٍ في عواقب الأمور، وحكمةٍ بالغة في التعامل مع الناس، والتراحم فيما بينهم، والتواصل معهم والإحسان إليهم. ولا يكون ذلك أيضاً إلا من خلال تقديم المصلحة العامة ومصلحة الجماعة، على مصلحة الفرد، ومن خلال عملٍ متواصلٍ واجتهادٍ مستمر، ومواكبةٍ دؤوبة للتطور السريع الذي يحكم مسار الحضارة الإنسانية وتحدياتها، والإستفادة من إيجابياتها والتصدي بحكمةٍ لسلبياتها. ولا يكون ذلك أيضاً إلا بالإستقامة والصلاح والسير على طريق الخير والفلاح في الدين والدنيا. كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: “اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد” (رواه الإمام أحمد).

(عن جريدة التمدن)

مقالات ذات صلة